سقى الله أيام الطفولة والصبا والشباب في المساجد وفي أروقة جمعية الإصلاح بذكرياتها الجميلة ، أيام الصفاء والنقاء والتربية والبذل والعطاء ، أيام الدعوة المباركة وأيام النشأة والتكوين. سقى الله ليالي حلقات العلم في المساجد في الفقه والعقيدة والفكر والخلق. سقى الله أيام النشاط والرياضة والتجمعات والمعارض والفعاليات الكثيرة والمهرجانات والرحلات. سقى الله ليلة من نعيم الجنة في رحلة روحانية جادة في شتاء بارد يلتزم المشاركون فيها بالتبتل والخشوع في خيمة صغيرة يقومون الليل فيها فلا تسمع غير صوت البكاء وصوت موقد المصباح "التريك". سقى الله أياما كان الفقير فينا ذي الثياب المتواضعة أخا مساويا لابن العائلة الميسورة يجمعهما حب في الله أسمى من كل الفروقات الاجتماعية.
في تفاصيل تلكم الذكريات كان أخونا الحبيب سلمان بن محمد عبدالله عجلان -رحمه الله وغفر له- حاضرا وفي كل المشاهد. لم نفتقده يوما ولم يتخلف عن نشاط أو محفل بل كانت همته العالية تعطينا دروسا من مشاركته الفاعلة وتواضعه الجم وعفاف نظرته وتعامله بالرغم من ضيق ذات اليد. هو ابن الدعوة المباركة الأخ سلمان عجلان الذي رحل عنا بالأمس بعد رحلة إلى الله طويلة عنوانها الصبر الجميل بكل أنواعه. صبر على الأذى وصبر على صعوبة الحياة وصبر على ما لازمه طوال حياته من نوبات عصبية وصبر بعد ذلك على أمراض أخرى كثيرة تكالبت عليه ونهشت من عافيته وأذهبت بصره حتى ودعنا إلى رحمة خالقه ومولاه بذكر حسن شهدنا له عليه وشهد علينا به.
وبالرغم مما كان يبدو عليه فقيدنا الغالي من بساطة الملبس والشكل والمظهر إلا أن أقرانه من إخواننا كانوا يروون لنا الكثير من قصص فضله وجهاده والتزامه وبره لدعوته. فقد لمع نجمه رحمه الله في الدعوة المباركة أيام شبابه في سبعينات القرن الماضي في جامعة الكويت. شاب يافع قوي البنية لا تفارقه الابتسامة ويعلو محياه الحياء قد اشتهر بالسمت الإسلامي والسيرة الطيبة والدعوة والالتزام. وأحب البحر وصيد الأسماك فكان لا يجاريه في هذه الحرفة أحد وكان يمارسها حتى أيام دراسته الجامعية حيث كان يخرج للصيد ليلا ويعود صباحا بالصيد الوفير. وقد كانت مرافقته في تلكم الرحلات كما المرتقى الصعب لا يقوى عليه إلا القليل من إخواننا الأشداء مثله رحمه الله.
وفي جامعة الكويت أحبه كل من خالطه لما كان يحمل من معاني الالتزام التي كان لا يحيد عنها فقد اشتهر بالمحافظة على الصلاة جماعة في المسجد البعيد لا يتخلف عنها لا في حر شديد ولا في برد قارس وكان يلزم قيام الليل وصيام النوافل واتخذ من المصحف رفيقا. وقد أحبه طلاب كثر ومن جنسيات متعددة من طلبة جامعة الكويت لما كان يجمع في شخصه رحمه الله من صفات التواضع والالتزام. وعلى النقيض كان الطلاب الشيوعيون والماركسيون والقوميون الذين علا صوتهم في تلك الفترة يسخرون منه ويتندرون بمظهره البسيط وكان لا يزيده ذلك إلا ثباتا والتزاما وبالرغم من سخريتهم من سمته ومظهره الإسلامي إلا أنهم كانوا يهابونه لقوة التزامه وكذا لقوة بدنه رحمه الله. وقد أثرت قصص ثباته على مبادئه ودعوته على الكثيرين حينذاك وقد أكرمه الله بأن يكون سببا لهداية مجموعة منهم حيث كانت الدعوة إلى الله شعار حياته.
بدأ حياته العملية بعد ذلك في مهنة التعليم التي لم تكن يسيرة عليه لما ابتلي به رحمه الله من نوبات مرض الأعصاب الشديدة ولم تكن حياته باليسيرة الناعمة كما حياتنا بل لم تكن حياة عادية بل كانت ابتلاء تلو ابتلاء. ابتلاء في الصحة والرزق ومن بعض المحيطين به من غير إخوانه ولكنه وبالرغم من كل ذلك الألم كان حلو المعشر يحب اللقاءات ويهيم بحلقات العلم والدروس ويشارك فيها بمداخلاته وتساؤلاته التي كانت تنم عن واسع اطلاع وشغف بالعلم والقراءة. ولو طلبت من أحد ممن عاشره أن يجمل لك شخصيته رحمه الله في كلمتين لقال سلمان طيب القلب. سلمان رحمه الله ذو قلب طيب شفاف وشخصية متفاعلة بالمشاركة الإيجابية ومتعالية على كل صنوف التعب والألم والمرض والإيذاء.
حدثني بعض من زاره في سنوات مرضه الأخيرة وقد كانوا في مجموعة ممن لازمه في سنوات دراسته بالجامعة. زاروه في بيته وقد ذهب بصره رحمه الله فعرفهم جميعا من أصواتهم بعد سنوات طويلة من الفراق وفرح بلقائهم فرحا شديدا أنساه كل آلامه وتعبه ومرضه العضال. بل كان يتبادل معهم الطرف والنكات من وحي الذكريات ولم يشكُ لهم مما ألم به ولم يتكلم عن مرضه إلا القليل وقد كان صابرا محتسبا. فلما سمعت عن هذا اللقاء قلت في نفسي كذلك عرفنا سلمان عجلان وكذلك خبرناه لا يتغير ولا يتبدل ويأبى إلا أن يرسل رسالته الإيجابية في كل حال لكي تتلقاها قلوب الحاضرين وقلوب من سيسمعون أخباره بعد ذلك.
فرحمك الله من أخ كريم بار صابر وجمعنا بك في الفردوس الأعلى وفي جنات النعيم. رحمك الله وغفر لك وجزاك عنا كل خير فبمثلك عرفنا طريق الخير والدعوة وكنت مع إخوانك السابقين لنا كما النجوم التي اهتدينا بها في أيام الدعوة الأولى. لن يضيرك إن لم تكن حديث كثير من الناس في حياتك أو حتى في مماتك ولكن من عرفك يبكيك حرقة على فراقك ويبكيك فرحا لهذه الخاتمة الطيبة بعد هذه الرحلة الطويلة التي حملت فيها لواء الصبر حتى أقبلت على من هو أرحم من الناس كلهم وأرحم من الأم على ولدها ربك ومولاك البر الرحيم سبحانه.
اللهم اغفر لأخينا الفاضل المبارك سلمان عجلان الذي استودعناه إياك وأنت خير مستودع به، اللهم وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وافسح له في قبره، ونور له فيه. ولا نقول إلا ما يرضيك وإنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله من قبل ومن بعد.
أخوك الصغير والداعي لك بالخير
وليدمحمدأحمدالحمادي
٢ شوال ١٤٤٢هـ/ ٥ أبريل ٢٠٢١م